الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا}.حكاية لما أُوتوا من النَّعمِ البادية في مسايرهم ومتاجرهم وما فَعلُوا بها من الكُفرانِ وما حاق به بسبب ذلك تكملةً لقصتهم وبيانًا لعاقبتهم وإنما لم يذكر الكلَّ معًا لما في التَّثنيةِ والتَّكريرِ من زيادة تنبيه وتذكير وهو عطف على كان لسبأٍ لا على ما بعده من الجمل النِّاطقةِ بأفعالهم أو بأجزيتها أي وجعلنا مع ما آتيناهم في مساكنهم من فُنون النِّعمِ بينهم أي بين بلادهم وبين القُرى الشَّاميةِ التي باركنا فيها للعالمين {قُرًى ظاهرة} متواصلة يُرى بعضُها من بعضٍ لتقاربها فهي ظاهرة لأعينُ أهلها أو راكبة متنَ الطريق ظاهرة للسَّابلةِ غير بعيدة عن مسالكهم حتَّى تخفى عليهم {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي جعلناها في نسبة بعضها إلى بعضٍ على مقدار معيَّنٍ يليقُ بحال أبناء السَّبيلِ قيل: كان الغادي من قرية يقيلُ في أخرى والرَّائحُ منها يبيت في أُخرى إلى أنْ يبلغً الشَّامَ. كلُّ ذلك كان تكميلًا لما أُوتوا من أنواع النَّعماء وتوفيرًا لها في الحضر والسَّفرِ {سِيرُواْ فِيهَا} على إرادة القول أي وقُلنا لهم سيروا في تلك القُرى {لَيَالِىَ وَأَيَّامًا} أي متى شئتم من الليالي والأيَّامِ {ءامِنِينَ} من كلِّ ما تكرهونه لا يختلف الأمنُ فيها باختلاف الأوقاتِ أو سيروا فيها آمنينَ وإن تطاولتْ مُدَّةُ سفرِكم وامتدتْ لياليَ وأيَّامًا كثيرة أو سيروا فيها لياليَ أعمارِكم وأيَّامَها لا تلقَون فيها إلا الأمنَ، لكن لا على الحقيقة بل على تنزيل تمكينهم من السَّيرِ المذكور وتسوية مباديه وأسبابه على الوجه المذكور منزلة أمرهم بذلك. {فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وقُرىء يا ربَّنا. بطروا النِّعمةَ وسئِمُوا أطيبَ العيشِ وملُّوا العافية فطلبوا الكدَّ والتَّعبَ كما طلب بنو إسرائيلَ الثوم والبصل مكان المنِّ والسَّلوى وقالوا لو كان جنَى جنّاتِنا أبعدَ لكان أجدرَ أن نشتهيَه وسألوا أنْ يجعل الله تعالى بينهم وبين الشأمِ مفاوزَ وقفارًا ليركبُوا فيها الرَّواحل ويتزوَّدوا الأزواد ويتطاولُوا فيها على الفقراء فعجَّل الله تعالى لهم الإجابةَ بتخريب تلك القُرى المتوسطة وجعلها بَلْقَعًا لا يُسمع فيها داعٍ ولا مجيبٌ. وقرىء ربنا بعِّدْ بين أسفارنا وبعُدَ بينُ أسفارنا على النداء وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به، كما يقال سير فرسخان وبُوعد بين أسفارِنا وقرىء ربنا باعد بين أسفارنا وبين سفرِنا وبعَّد برفع ربنا على الابتداء والمعنى على خلاف الأول وهو استبعادُ مسايرهم مع قِصرها أو دنوِّها وسهولة سلوكها لفرطِ تنعُّمهم وغاية ترفههم وعدم اعتدادهم بنعم الله تعالى كأنَّهم يتشاجَون على الله تعالى ويتحازنون عليه {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث عرَّضُوها للسَّخطِ والعذاب حين بطروا النِّعمةَ أو غمطُوها {فجعلناهم أَحَادِيثَ} أي جلعناهم بحيث يتحدثُ النَّاسُ بهم متعجِّبين من أحوالَهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلِهم {ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي فرَّقناهم كلَّ تفريقٍ على أنَّ المُمزَّقَ مصدرٌ، أو كلَّ مطرحِ ومكانِ تفريقٍ، على أنه اسم مكان، وفي عبارة التَّمزيقِ الخاص بتفريق المتَّصل وخرقه من تهويل الأمرِ والدِّلالةِ على شدَّةِ التَّأثيرِ والإيلامِ ما لا يخفى أي مزَّقناهم تمزيقًا لا غاية وراءه بحيث يُضرب به الأمثال في كلِّ فُرقة ليس بعدها وصالٌ حتى لحق غسَّانُ بالشَّأمِ وأنمارٌ بيثربَ وجُذامُ بتهامةَ والأزدُ بُعمانَ. وأصلُ قصَّتهم على ما رواه الكلبيُّ عن أبي صالحٍ أنَّ عمروَ بن عامرِ من أولاد سبأٍ وبينهما اثنا عشر أبًا وهو الذي يُقال له مُزَيْقِيا بنُ ماء السَّماء أَخبرتْهُ طريفةُ الكاهنةُ بخراب سدِّ مأربَ وتفريق سيل العرم الجنَّتين. وعن أبي زيد الأنصاريِّ أنَّ عَمرًا رأى جُرَذًا يحفرُ السَّدَّ فعلم أنَّه لا بقاء له بعدُ، وقيل: إنَّه كان كاهنًا وقد عَلمه بكهانتِه فباع أملاكَه وسار بقومه وهم ألوفٌ من بلد إلى بلد حتى انتهى إلى مكَّة المعظَّمة وأهلها جُرهمٌ وكانوا قهروا النَّاسَ وحازوا ولايةَ البيت على بني إسماعيلَ عليه السَّلامُ وغيرهم فأرسل إليهم ثعلبةَ بن عمرو بن عامر يسألُهم المقام معهم إلى أنْ يرجع إليه رُوَّادُه الذين أرسلهم إلى أصقاع البلاد يطلبون له موضعًا يسَعه ومَن معه من قومه فأبَوا فاقتتلُوا ثلاثةَ أيَّامٍ فانهزمت جُرهمٌ ولم يفلت منهم إلا الشَّريدُ وأقام ثعلبةُ بمكَّةَ وما حولها في قومِه وعساكرِه حولًا فأصابْتُهم الحُمَّى فاضطرُوا إلى الخروج وقد رجع إليه رُوَّادُه فافترقوا فرقتينُ فرقةٌ توجَّهت نحو عُمانَ وهم الأُزد وكندة وحِمْيرُ ومَن يتلوهم وسار ثعلبةُ نحو الشَّامِ فنزل الأوسُ والخزرجُ ابنا حارثةَ بنِ ثعلبةَ بالمدينةِ وهم الأنصارُ ومضت غسَّانُ فنزلوا بالشَّأمِ وانخزعتْ خزاعة بمكَّةَ فأقام بها ربيعةُ بن حارثةَ بنِ عمروِ بنِ عامرٍ وهو لحيُّ فولِي أمرَ مكَّةَ وحجابةَ البيتِ ثم جاءهم أولادُ إسماعيل عليه السَّلامُ فسألوهم السُّكنى معهم وحولهم فأذِنُوا لهم في ذلك.ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ فروةَ بن مُسيكٍ الغطيفي سأل النبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام عن سبأٍ فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو رجلٌ كان له عشرةُ أولاد ستَّةٌ منهم سكنُوا اليمنَ وهم مَذْحِجُ وكِنْدةُ والأَزدُ والأشعريُّون وحِمْيَرُ وأَنمارٌ منهم بَجِيلةُ وخَثْعَمُ وأربعةٌ منهم سكنُوا الشّأَمَ وهم لَخْمٌ وجُذَامٌ وعَامِلةُ وغَسَّانُ لما هلكتْ أموالُهم وخربتْ بلادُهم تفرَّقُوا أَيْدِي سَبًا شَذَرَ مَذَرَ فنزلتْ طوائفُ منهم بالحجاز فمنهم خُزَاعةُ نزلزوا بظاهر مكَّةَ ونزلتِ الأوسُ والخزرجُ بيثربَ فكانوا أوَّلَ مَن سكنها ثم نزل عندهم ثلاثُ قبائلَ من اليهَّودِ بنُو قَينُقاعَ وبنُو قُريظَة والنَّضيرِ فحالفوا الأوسَ والخزرجَ وأقاموا عندهم ونزلتْ طوائفُ أُخر منهم بالشأمِ وهم الذين تنصَّروا فيما بعد وهم غسَّانُ وعَاملةُ ولَخْمٌ وجُذَامٌ وتَنْوخُ وتَغْلِبُ وغيرُهم، وسَبَأٌ تجمعُ هذه القبائلَ كلَّها والجمهورُ على أنَّ جميعَ العرب قسمانِ قحطانيّةُ، وعدنانيَّةُ، والقحطانيَّةُ شعبانِ سبأٌ وحَضْرمَوْتَ والعدنانَّيةُ شعبانِ رَبيعةُ ومُضَرُ وأما قُضَاعةُ فمختلفٌ فيها فبعضهم ينسبونَها إلى قَحْطانَ وبعضُهم إلى عدنانَ والله تعالى أعلم. {إِنَّ في ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من قصَّتهم {لآيَاتٍ} عظيمةً {لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي شأنه الصَّبرُ عن الشَّهواتِ ودواعي الهَوَى وعلى مشاقِّ الطَّاعاتِ والشُّكرُ على النِّعمِ. وتخصيصُ هؤلاء بذلك لأنهم المُنتفعون بها. {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي حقَّق عليهم ظنَّه أو وجده صادقًا. وقُرىء بالتَّخفيف أي صدَق في ظنِّه أو صدَقَ بظنَ ظنُّه ويجوز تعدية الفعل إليه بنفسه لأنَّه نوع من القول وقُرىء بنصب إبليسَ ورفعِ الظَّنِّ مع التَّشديدِ بمعنى وجدَه ظنُّه صادقًا ومع التَّخفيف بمعنى قال له الصِّدقُ حين خيَّل له إغواءهم وبرفعهما والتحفيف على الإبدال. وذلك إما ظنّه بسيأ حين رأى انهماكهم في الشَّهواتِ أو ببني آدمَ حين شاهدَ آدمَ عليه السَّلامُ قد أصغى إلى وسوسته قال إنَّ ذُريَّتَه أضعفُ منه عزمًا وقيل ظنَّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكةَ أنَّه يجعلُ فيها مَن يفسد فيهاويسفكُ الدِّماء وقال لأضلنَّهم ولأغوينَّهم {فاتبعوه} أي أهلُ سبأٍ أو النَّاسُ {إِلاَّ فَرِيقًا مّنَ المؤمنين} إلا فريقًا هم المؤمنون لم يتَّبعوه على أنَّ مِن بيانيةٌ. وتقليلُهم بالإضافة إلى الكُفَّارِ أو إلا فريقًا من فِرقِ المؤمنين لم يتَّبعوه وهم المُخلَصون {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان} أي تسلُّطٌ واستيلاء بالوسوسةِ والاستغواء وقولُه تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا في شَكّ} استثناء مفرَّغٌ من أعمِّ العللِ ومَن موصولةٌ أي وما كان تسلُّطُه عليهم إلا ليتعلَّقَ علمُنا بمَنْ يُؤمن بالآخرةِ متميِّزًا ممَّن هو في شكَ منها تعلُّقًا حاليًا يترتَّب عليه الجزاء أو إلا ليتمَّيزَ المؤمنُ من الشَّاكِّ أو إلا ليؤمنَ من قُدِّر إيمانُه ويشكُّ من قُدِّر ضلالُه والمراد من حصول العلم حصول متعلَّقه مبالغةً {وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شيء حَفُيظٌ} أي محافظ عليه فإنَّ فَعيلًا ومُفاعِلًا صيغتانِ متآخيتانِ. اهـ..قال الألوسي: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظاهرة} إلى آخره. عطف بمجموعه على مجموع ما قبله عطف القصة على القصة وهو حكاية لما أوتوا من النعم في مسايرهم ومتاجرهم وما فعلوا بها من الكفران وماحاق بهم بسبب ذلك وما قبل كان حكاية لما أوتوا من النعم في مساكنهم ومحمل إقامتهم وما فعلوا بها وما فعل بهم، والمراد بالقرى التي بورك فيها قرى الشام وذلك بكثرة أشجارها وأثمارها والتوسعة على أهلها وعن ابن عباس هي قرى بيت المقدس وعن مجاهد هي السراوية وعن وهب قرى صنعاء وقال ابن جبير: قرب مأرب والمعول عليه الأول حتى قال ابن عطية إن إجماع المفسرين عليه، ومعنى {ظاهرة} على ما روى عن قتادة متواصلة يقرب بعضها من بعض بحيث يظهر لمن في بعضها ما في مقابلته من الأخرى وهذا يقتضي القرب الشديد لكن سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما قيل في مقدار ما بين كل قريتين وقال المبرد ظاهرة مرتفعة أي على الآكام والظراب وهي أشرف القرى؛ وقيل ظاهرة معروفة يقال هذا أمر ظاهر أي معروف وتعرف القرية لحسنها ورعاية أهلها المارين عليها، وقيل: ظاهرة موضوعة على الطرق ليسهل سير السابلة فيها.وقال ابن عطية: الذي يظهر لي أن معنى {ظاهرة} خارجة عن المدن فهي عبارة عن القرى الصغار التي في ظواهر المدن كأنه فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن، وظواهر المدن ما خرج عنها في الفيافي ومنه قولهم نزلنا بظاهر البلد الفلاني أي خارجًا عنه، ومنه قول الشاعر:يعني أن الخارجين من بطحاء مكة ويقال للساكنين خارج البلد أهل الضواحي وأهل البوادي أيضًا. {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي جعلنا نبسة بعضها إلى بعض على مقدار معين من السير قيل من سار من قرية صباحًا وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدو ونحوه، وقيل: كان بين كل قريتين ميل، وقال الضحاك: مقادير المراحل كانت القرى على مقاديرها وهذا هو الأوفق بعنى {ظاهرة} على ما سمعت عن قتادة وكذا بقوله سبحانه: {سِيرُواْ فِيهَا} فإنه مؤذن بشدة القرب حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى، والظاهر أن {سِيرُواْ} أمر منه عز وجل على لسان نبي أو نحوه وهو بتقدير القول أي قلنا لهم سيروا في تلك القرى {لَيَالِىَ وَأَيَّامًا} أي متى شئتم من ليل ونهار {ءامِنِينَ} من كل ما تكرهونه لا يختلف إلا من فيها باختلاف الأوقات، وقدم الليالي لأنها مظنة الخوف من مغتال وإن قيل الليل أخفى للويل أو لأنها سابقة على الأيام أو قلنا سيروا فيها آمنين وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت ليالي وأيامًا كثيرة، قال قتادة: كانوا يسيروا مسيرة أربعة أشهر في أمان ولو وجد الرجل قاتل أبيه لم يهجه أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم أي مدة أعماركم لا تلقون فيها الا الأمن، وقدمت الليالي لسبقها.وأيًا ما كان فقد علم فائدة ذكر الليالي والأيام وإن كان السير لا يخلو عنهما، وجوز أن لا يكون هناك قول حقيقة وإنما نزل تمكينهم من السير المذكور وتسوية مباديه وأسبابه منزلة القول لهم وأمرهم بذلك والأمر على الوجهين للإباحة. {فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا} لما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير كما فعل بنو إسرائيل وقالوا: لو كانت متاجرنا أبعد كان ما نجلبه منها أشهى وأغلى فطلبوا تبديل اتصال العمران وفصل المفاوز والقفار وفي ضمن ذلك إظهار القادرين منهم على قطعها بركوب الرواحل وتزود الأزواد الفخر والكبر على الفقراء العاجزين عن ذلك فجعل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب القرى المتوسطة وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب، والظاهر أنهم قالوا ذلك بلسان القال، وجوز الإمام أن يكونو قالوا: {باعد} بلسان الحال أي فلما كفروا فقد طلبوا أن يبعد بين أسفارهم ويخرب المعمور من ديارهم.وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام {بَعْدَ} بتشديد العين فعل طلب، وابن عباس وابن الحنفية وعمرو بن قائد {رَبَّنَا} رفعًا {بَعْدَ} بالتشديد فعلًا ماضيًا، وابن عباس وابن الحنفية أيضًا وأبو رجاء والحسن ويعقوب وزيد بن علي وأبو صالح وابن أبي ليلى والكلبي ومحمد بن علي وسلام وأبو حيوة {رَبَّنَا} رفعًا و {باعد} طلبًا من المفاعلة، وابن الحنفية أيضًا وسعيد بن أبي الحسن أخو الحسن وسفيان بن حسين وابن السميقع {رَبَّنَا} بالنصب {بَعْدَ} بضم العين فعلًا ماضيًا {بَيْنَ} بالنصب إلا سعيدًا منهم فإنه يضم النون ويجعل {بَيْنَ} فاعلًا، ومن نصب فالفاعل عنده ضمير يعود على {السير} ومن نصب {رَبَّنَا} جعله منادى فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشرًا وبطرًا.وفاعل بمعنى فعل وإن جاء فعلًا ماضيًا كان ذلك شكوى من مسافة ما بين قراهم مع قصرها لتجاوزهم في الترفه والتنعم أو شكوى مما حل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها بعد وقوعها أو دعاء بلفظ الخبر، ومن رفع {رَبَّنَا} فلا يكون الفعل عنده إلا ماضيًا والجملة خبرية متضمنة للشكوى على ما قيل، ونصب {بَيْنَ} بعد كل فعل متعد في إحدى القراءات ماضيًا كان أو طلبًا عند أبي حيان على أنه مفعول به، وأيد ذلك بقراءة الرفع أو على الظرفية والفعل منزل منزلة اللازم أو متعد مفعوله محذوف أي السير وهو أسهل من إخراج الظرف الغير المتصرف عن ظرفيته.وقرىء {بوعد} مبنيًا للمفعول.وقرأ ابن يعمر {مِن سَفَرِنَا} بالإفراد {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث عرضوها للسخط والعذاب حين بطروا النعمة وغمطوها {فجعلناهم أَحَادِيثَ} جمع أحدوثه وهي ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب لا جمع حديث على خلاف القياس، وجعلهم نفس الأحاديث إما على المبالغة أو تقدير المضاف أي جعلناهم بحديث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم.وقيل المراد لم يبق منهم إلا الحديث عنهم ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث {ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي فرقناهم كل تفريق على أن الممزق مصدر أو كل مطرح ومكان تفريق على أنه اسم مكان، وفي التعبير بالتمزيق الخاص بتفريق المتصل وخرقه من تهويل الأمر والدلالة على شدة التأثير والإيلام ما لا يخفى أي مزقناهم تمزيقًا لا غاية وراءه بحيث يضرب مثلًا في كل فرقة ليس بعدها وصال، وعن ابن سلام أن المراد جعلناهم ترابًا تذروه الرياح وهو أوفق بالتمزيق إلا أن جميع أجلة المفسرين على خلافه وأن المراد بتمزيقهم تفريقهم بالتباعد، وقد تقدم لك غير بعيد حديث كيفية تفرقهم في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لفروة بن مسيك.
|